لتراجع التمويل والتطعيم.. الصحة العالمية تحذّر من انتكاسة وبائية بعد ارتفاع إصابات الحصبة
لتراجع التمويل والتطعيم.. الصحة العالمية تحذّر من انتكاسة وبائية بعد ارتفاع إصابات الحصبة
رغم أن العالم حقق إنجازا صحيا كبيرا في تقليص عدد الوفيات الناجمة عن مرض الحصبة خلال العقدين الماضيين، فإن هذا التقدم بات اليوم على المحك، فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن حالات الوفاة بسبب الحصبة تراجعت بنسبة 88% منذ عام 2000 وحتى عام 2024، في إنجاز يعكس واحدة من أنجح حملات التطعيم الجماعي في التاريخ الحديث، غير أن المنظمة حذرت في الوقت نفسه من أن ارتفاع معدلات الإصابة، إلى جانب تراجع مستويات التطعيم ونقص التمويل، يهددان بتقويض هذا النجاح وإعادة المرض إلى واجهة الأزمات الصحية العالمية.
التطعيم ينقذ ملايين الأرواح
بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية المنشورة الجمعة، أسهمت برامج التطعيم ضد الحصبة في إنقاذ نحو 59 مليون شخص حول العالم خلال الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2024، هذا الرقم يعكس حجم الأثر الإنساني المباشر للقاحات، خاصة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث كانت الحصبة في السابق سببا رئيسيا لوفيات الأطفال، وفق وكالة الأنباء الألمانية.
وتؤكد المنظمة أن الانخفاض الكبير في الوفيات تحقق بفضل التوسع في حملات التطعيم الوطنية، وتحسين الوصول إلى الرعاية الصحية الأولية، وتعزيز أنظمة المراقبة الوبائية. كما لعب التعاون الدولي، عبر مبادرات مشتركة بين الحكومات والمنظمات الأممية، دورا محوريا في إيصال اللقاحات إلى مناطق نائية ومجتمعات كانت خارج التغطية الصحية لسنوات طويلة.
غير أن هذا النجاح، بحسب خبراء الصحة العامة، لم يكن دائما متكافئا بين الدول، إذ لا تزال الفجوات قائمة، خاصة في المناطق المتأثرة بالنزاعات المسلحة أو الأزمات الاقتصادية المزمنة.
عودة مقلقة للإصابات
في تقرير صدر عن المنظمة أشارت الصحة العالمية إلى أن حالات الإصابة بالحصبة بدأت بالارتفاع مجددا على المستوى العالمي، في ظاهرة تعكس سنوات من التراجع في برامج التحصين الروتينية، ويرتبط هذا الارتفاع بعدة عوامل، من بينها تعطّل الخدمات الصحية خلال جائحة كورونا، وتراجع الثقة المجتمعية في اللقاحات، وانتشار معلومات مضللة حول سلامتها.
وترى المنظمة أن انخفاض معدلات التطعيم دون المستوى المطلوب لوقف انتقال الفيروس يشكل بيئة خصبة لعودة الحصبة، لا سيما أن المرض يعد شديد العدوى، ويمكن أن ينتشر بسرعة في المجتمعات التي تنخفض فيها المناعة الجماعية.
وتحذر المنظمة من أن أي تراجع في نسب التطعيم، حتى وإن بدا محدودا، قد يؤدي إلى تفشيات واسعة، خصوصا بين الأطفال دون سن 5 سنوات، وهم الفئة الأكثر عرضة لمضاعفات المرض الخطيرة.
أفغانستان في قلب الأزمة
تشكل أفغانستان نموذجا صارخا للتحديات الصحية التي تهدد المكاسب العالمية ضد الحصبة، فقد سجلت البلاد، بحسب منظمة الصحة العالمية، ارتفاعا في عدد حالات الإصابة بنسبة 18%، وزيادة في الوفيات بنسبة 40% خلال عام 2022، وهي أرقام تعكس هشاشة النظام الصحي في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المعقدة.
وتواجه أفغانستان أزمة صحية متعددة الأبعاد، حيث يحتاج نحو 22 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية عاجلة، وفقا لتحذير أطلقته منظمة الصحة العالمية في أغسطس الماضي، ويأتي تفشي الحصبة في سياق أوسع من التحديات، تشمل سوء التغذية الحاد، وتدهور صحة الأم والطفل، واستمرار انتشار أمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات مثل شلل الأطفال.
ويشير عاملون في المجال الإنساني إلى أن القيود على الحركة، ونقص التمويل، وتراجع البنية التحتية الصحية، كلها عوامل تسهم في صعوبة تنفيذ حملات تطعيم فعالة، خاصة في المناطق الريفية والنائية.
الأطفال الأكثر تضررا
تؤكد منظمة الصحة العالمية أن الحصبة لا تزال من أكثر الأمراض فتكا بالأطفال، رغم توفر لقاح آمن وفعال منذ عقود. ويمكن أن تتسبب الإصابة بالمرض في مضاعفات خطيرة تشمل الالتهاب الرئوي، والتهاب الدماغ، والعمى، وقد تؤدي في بعض الحالات إلى الوفاة، خاصة لدى الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية أو ضعف المناعة.
وتشدد المنظمة على أن الأطفال في البيئات الهشة هم الأكثر عرضة للخطر، حيث يتقاطع نقص الغذاء مع ضعف الخدمات الصحية، ما يجعل الإصابة بالحصبة أكثر خطورة وأشد فتكا.
ويرى خبراء أن حماية الأطفال من الحصبة ليست فقط مسألة صحية، بل قضية إنسانية وأخلاقية، تعكس التزام المجتمع الدولي بحقوق الطفل في الحياة والرعاية الصحية.
تحديات الثقة والتمويل
إلى جانب التحديات اللوجستية، تواجه حملات التطعيم تحديا متزايدا يتمثل في تراجع الثقة العامة في اللقاحات، خاصة في بعض الدول الغنية، حيث ساهمت حملات التضليل في تقويض الإقبال على التطعيم، وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن هذه الظاهرة لا تقل خطورة عن نقص الموارد في الدول الفقيرة، لأنها تهدد المناعة الجماعية على نطاق واسع.
كما حذّرت المنظمة من أن نقص التمويل المخصص لبرامج التحصين قد يؤدي إلى تقليص الحملات الوقائية، ما يفتح الباب أمام عودة أمراض كان العالم على وشك القضاء عليها.
ودعت المنظمة الحكومات والجهات المانحة إلى الاستثمار المستدام في أنظمة الصحة العامة، وتعزيز الثقة المجتمعية من خلال الشفافية والتواصل العلمي الواضح.
يعد مرض الحصبة وباءاً فيروسيا شديد العدوى ينتقل عبر الهواء، ويمكن الوقاية منه عبر لقاح فعال تبلغ فاعليته أكثر من 95% عند الحصول على الجرعات الموصى بها، وأطلقت منظمة الصحة العالمية وشركاؤها منذ مطلع الألفية مبادرات عالمية للحد من انتشار المرض، أسهمت في إنقاذ ملايين الأرواح وتقليص العبء الصحي في عشرات الدول، غير أن النزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية، وتراجع الثقة باللقاحات، أعادت الحصبة إلى دائرة الخطر في عدد من المناطق، وتشير التقديرات إلى أن الحفاظ على المكاسب المحققة يتطلب التزاما سياسيا طويل الأمد، وتمويلا كافيا، وتعاونا دوليا يضع صحة الأطفال في صدارة الأولويات، قبل أن تتحول العودة الحالية للمرض إلى انتكاسة عالمية واسعة النطاق.










